أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٣٢
في بيوتهم وسلموا إليهم المفاتيح وقالوا: قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ". فهذا تأويل ثالث. وروي فيه تأويل رابع، وهو ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال: " كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج لأنه لا ينال ما ينال الصحيح، فنزلت هذه الآية ". وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل، لأنه لم يقل: ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى، وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذكر معه في الأكل، فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف، وإن كان تأويل مقسم محتملا على بعد في الكلام، وتأويل ابن عباس ظاهره لأن قوله تعالى:
(لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) [البقرة: 188]، ولم يكن هذا تجارة وامتنعوا من الأكل، فأنزل الله إباحة ذلك. وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين، أحدهما: أنه قد كانت العادة عندهم بذل الطعام لأقربائهم ومن معهم، فكان جريان العادة به كالنطق به، فأباح الله للأعمى ومن ذكر معه إذا استتبعوا أن يأكلوا من بيوت من اتبعوهم وبيوت آبائهم. والثاني: أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام، وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم، فكان ذلك القدر مستحقا من مالهم لهؤلاء، فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن. وقال قتادة: " إن أكلت من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس، لقوله: (أو صديقكم) ". وروي أن أعرابيا دخل على الحسن، فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها، فبكى الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت بما صنع هذا إخوانا لي مضوا، يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون. وهذا أيضا على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله.
وقوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم)، يعني والله أعلم: من البيوت التي هم سكانها وهم عيال غيرهم فيها، مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته، ونسبها إليهم لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال نفسه، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره، وقال الله:
(أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم) فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفقد التمانع في أمثاله، ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد لأن قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) قد أفاده، لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " وقال: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب
(٤٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 427 428 429 430 431 432 433 434 435 436 437 ... » »»