أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٢٩
واختلف في الإثبات هل يكون بلوغا، فلم يجعله أصحابنا بلوغا، والشافعي يجعله بلوغا، وظاهر قوله: (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) ينفي أن يكون الإثبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة بلوغا. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " وعن الصبي حتى يحتلم ". وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي. واحتج من جعله بلوغا بحديث عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من بني قريظة واستحيى من لم ينبت، قال: فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني ". وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله، إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف إلا من هذا الخبر، لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام، ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ، ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه المواسي، وفي بعضها من اخضر إزاره، ومعلوم أن لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه، ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير، فجعل الإنبات وجري المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر.
وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن أنبت. وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغا، لأن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ.
وقد روي عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الانسان لم يأخذ به أحد من الفقهاء.
وروى محمد بن سيرين عن أنس قال: " أتى أبو بكر بغلام قد سرق، فأمره فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ". وروى قتادة عن خلاس عن علي قال: " إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه، وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار فهو ضامن ". وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة: " أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه، ثم حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق، فكتب إليه أن أشبره فشبره فنقص أنملة فسمي نميلة ".
قال أبو بكر: وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل السلف، إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه، لأنه قد يكون قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولم يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم، وقوله (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) يدل على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن من أهل التكليف، على جهة التعليم، كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات. وقد روى عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ الغلام سبع سنين فمروه بالصلاة، وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها ". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(٤٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 424 425 426 427 428 429 430 431 432 433 434 ... » »»