أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٦٣
فإن قيل: فإذا تاب وأصلح فهو عدل ولي لله تعالى، وقد كان بطلان شهادته بديا على وجه العقوبة والتوبة تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية، فغير جائز بطلان شهادته بعد توبته. قيل له: لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على وجه العقوبة بل على جهة المحنة، كما لا تكون إقامة الحد عليه بعد التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة، ولله أن يمتحن عباده بما شاء على وجه المصلحة، ألا ترى أن العبد قد يكون عدلا مرضيا عند الله وليا لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد لولده ومن جرى مجراه؟ فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفا على الفسق وعلى وجه العقوبة حتى يعارض فيه بما ذكرت.
ومما يدل على أن توبة القاذف لا توجب جواز شهادته أن شهادته إنما بطلت بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه لما قد بينا فيما سلف، فلما تعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجز إجازتها إلا بحكم الحاكم بجوازها، لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يزل ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق والطلاق وسائر الحقوق، فلما لم تكن توبته مما تصح الخصومة فيه ولا يحكم بها الحاكم لم يجز لنا إبطال ما قد ثبت بحكم الحاكم.
فإن قيل: فرقة اللعان والعنين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح، فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان متعلقا بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم الحاكم بديا ببطلانها مقصورا على الحال التي لم تحدث فيها توبة، كما أن الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن منهما فيها عقد مستقبل قيل له: لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم، والتوبة ليست مما يحكم به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان شهادته، ولكنه لو شهد القاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فحكم بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته.
فإن قيل: فلو أن رجلا زنى فحده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة ولم يكن حكم الحاكم مانعا من قبولها بعد التوبة. قيل له: الزاني لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم لظهور فسقه فلما، لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند ظهور توبته، وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقا، وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف. ويدل على ذلك من جهة السنة حديث
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»