أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٦٦
الحكم بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة. وأيضا فإن الفسق من الشاهد غير متيقن في حال الشهادة، إذ جائز أن يكون عدلا بتوبته في الحال فيما بينه وبين الله، وأما الكفر والحد والعمى والرق فقد علمنا أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهدا، فلذلك اختلفا.
فإن قيل: جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضا فيما بينه وبين الله. قيل له: لا يكون مسلما باعتقاده الاسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه إظهاره، فإذا لم يظهره فهو باق على كفره، فقول زفر في هذه المسألة أظهر لأنه إن جاز أن يكون فسق الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل الشهادة في باب سقوط الحد عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف.
قال أبو بكر: اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاؤوا متفرقين، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح: " يحدون ". وقال عثمان البتي والشافعي: " لا يحدون وتقبل شهادتهم "، ثم قال الشافعي: " إذا كان الزنا واحدا ".
قال أبو بكر: لما شهد الأول وحده كان قاذفا بظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) فاقتضى أن يكون الأربعة غيره، إذ غير جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة، لأنه لا يقال ائت بنفسك بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك، ولأنهم لم يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلف لأن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا وليس هو منهم، فكذلك قوله أشهد أنك زانية، وإذا كان كذلك فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحد على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة، فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم الثاني والثالث والرابع، إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنة قد أوجب الله عليه الحد ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره.
فإن قيل: إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفا ولم يجىء مجيء الشهادة، فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول: " أشهد أن فلانا زنى " فليس هذا بقاذف. قيل له: قذفه إياها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم القاذفين، ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفا وكان الحد له لازما؟ فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من أن يكون قاذفا بعد أن يكون وحده. وأيضا فقد تناوله عموم قوله: (والذين يرمون المحصنات) إذ كان راميا، وإنما ينفصل حكم الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول الشهادة، فلا يكونون مكلفين لأن يأتوا بغيرهم، فأما من دون الأربعة إذا جاؤوا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قذفة إذ هم
(٣٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 361 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 ... » »»