أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٥٢
واحدا، كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا، فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حد، وإن شئت قلت إنه مما يسقط بالشبهة.
فإن قيل: حد القذف حق لآدمي، فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء حده على حياله، والدليل على أنه حق لآدمي أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف، قيل له: الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإنما المطالبة به حق لآدمي لا الحد نفسه، وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمي، ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي؟ فكذلك حد القذف، ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه ولا يورث. ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في القذف أربعين، ولو كان حقا لآدمي لما اختلف الحر والعبد فيه، إذ كان الجلد مما ينتصف، ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية؟ فلو كان حد القذف حقا لآدمي لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر والعبد، وكذلك العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال إذ ما يثبت على الحر فمثله يثبت على العبد.
وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعي والشافعي: " لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ". وقال ابن أبي ليلى: " يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف "، وقال مالك: " لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول ".
قال أبو بكر: حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "، فثبت بذلك أن ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه، فلما قال لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء: " ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك " ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد، دل ذلك على أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف. ويدل عليه أيضا ما روي في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة في قصة العسيف، وأن أبا الزاني قال:
إن ابني زنى بامرأة هذا، فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بقذفها وقال: " اغد يا أنيس على امرأة هذا
(٣٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 347 348 349 350 351 352 353 354 355 356 357 ... » »»