ما تقدمه وأن لا يرد إلى ما تقدمه إلا بدلالة، وذلك لأنه لما استحال دخول هذا الاستثناء لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون مستعملا في البعض دون الكل، فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه هو المتيقن دون غيره، بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه مقصورا على الأقل المتيقن دون اعتبار لفظ العموم، كذلك الاستثناء. ولما جاز دخول شرط مشيئة الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأسا وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة.
ويدل على أن الاستثناء في قوله: (إلا الذين تابوا) مقصور على ما يليه دون ما تقدمه، أن قوله: (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) كل واحد منهما أمر، وقوله: (وأولئك هم الفاسقون) خبر، والاستثناء داخل عليه، فوجب أن يكون موقوفا عليه دون رجوعه إلى الأمر، وذلك لأن " الواو " في قوله: (وأولئك هم الفاسقون) للاستقبال، إذ غير جائز أن يكون للجميع لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد الأمر و الخبر، ألا ترى أنه لا يصح جمعهما في كناية ولا في لفظ واحد؟ ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحد إذا كان أمرا، ونظيره قول القائل: " أعط زيدا درهما، ولا تدخل الدار وفلان خارج إن شاء الله " أن مفهوم هذا الكلام رجوع الاستثناء إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر، كذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء في الآية لا فرق بينهما.
فإن قيل: قال الله تعالى جزاء: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) [المائدة: 33] إلى قوله: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33]، ثم قال: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) [المائدة: 34]، ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمر، وقوله: (ذلك لهم خزي في الدنيا) [المائدة: 33] خبر، فرجع الاستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر. قيل له: إنما جاز ذلك لأن قوله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33] وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر، فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الاستثناء إلى الجميع، ولما كان قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر، وجب أن لا يرجع إلى الجميع، ومع ذلك فإنا نقول متى اختلف صيغ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة، فإن قامت الدلالة جاز رده إليه، وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مبقي على حكمه في الأصل.