أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٦٠
فإن قيل: لما كانت " الواو " للجمع، ثم قال: (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر، فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر، إذ لم يكن لتقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب، فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا، فليس رجوع الاستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد، ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة. قيل له: إن " الواو " قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستيناف وهي في قوله: (وأولئك هم الفاسقون) للاستيناف، لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا، وذلك في نحو قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) [المائدة: 6] إلى آخر الآية، لأن الجميع أمر، كأنه قال: فاغسلوا هذه الأعضاء، لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر. وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر، ولا يجوز أن ينتظمها جملة واحدة، فلذلك كانت " الواو! للاستيناف، إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر، وقوله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33] الاستثناء فيه عائدا إلى الأمر بالقتل وما ذكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه، لأن قوله: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) [المائدة: 34]، لا يجوز أن يكون عائدا إلى قوله: (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 34]، لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها، فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحد دون عذاب الآخرة. ودليل آخر، وهو أن قوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) لا يخلو من أن يكون بطلان هذه الشهادة متعلقا بالفسق أو يكون حكما على حياله تقتضي الآية تأبيده، فلما كان حمله على بطلانها بلزوم سمة الفسق يبطل فائدة ذكره، إذ كان ذكر التفسيق مقتضيا لبطلانها إلا بزواله والتوبة منه، وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسمة الفسق ولا بترك التوبة. وأيضا فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة، وفي حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه، وذلك خلاف مقتضى اللفظ. وأيضا فإن حمله على ما ادعى يوجب أن يكون الفسق المذكور في الآية علة لما ذكر من إبطال الشهادة، فيكون تقديره: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لأنهم فاسقون، وفي ذلك إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى مجاز لا دلالة عليه، لأن حكم اللفظ أن يكون قائما بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يجعل علة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف عليه، فثبت بذلك أن
(٣٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 365 ... » »»