بطلان الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية غير موقوف على التوبة.
فإن قيل: رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى منه إلى الفسق، لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة، إذ كان جائزا أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة، فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل ولا سمع إذ كانت سمة الفسق ذما وعقوبة، وغير جائز أن يستحق التائب الذم، وليس كذلك بطلان الشهادة، ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائزي الشهادة لا على وجه الذم والتعنيف لكن عبادة؟ فكان رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق. قيل أن التوبة المذكورة في هذه الآية أنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه، لأنه به استحق سمة الفسق، وقد كان جائزا أن تبقى سمة الفسق عليه إذا تاب من سائر الذنوب ولم يكذب نفسه، فأخبر الله تعالى بزوال سمة الفسق عنه إذا أكذب نفسه. ووجه آخر، وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد به ولم يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت مقبولة عند الله، لأنا لا نقف على حقيقة توبته، فكان جائزا أن يتعبدنا بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة ولا نتولاه على حسب ما نتولى سائر أهل التوبة، فلما كان ذلك جائزا ورود العبادة به أفادتنا الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته.
فإن قيل: لما اتفقنا على أن الذمي المحدود في القذف تقبل شهادته إذا أسلم وتاب، دل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف، أحدهما: أنه قد ثبت أن الاستثناء راجع إلى بطلان الشهادة، إذ كان الذمي مرادا بالآية، وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة. والثاني: أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه. قيل له: ليس الأمر فيه على ما ظننت، وذلك لأن الذمي لم يدخل في الآية، وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جلد وحكم بفسقه من جهة القذف، والذمي قد تقدمت له سمة الفسق، فلما لم يستحق هذه السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالاتفاق، ولم يحصل الإتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفار إذا أسلموا.
فإن قيل: فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مرادا بالآية، إذ لم يستحدث سمة الفسق بوقوع الحد به. قيل له: هو كذلك، وإنما دخل في حكمها بالمعنى لا باللفظ، وإنما أجاز أصحابنا شهادة الذمي المحدود في القذف بعد إسلامه