أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٠٣
يكون في وصف العبيد بالقيام بطاعة الله كلام أبلغ ولا أفخم من قوله تعالى:
(والحافظون لحدود الله).
قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة). والعسرة هي شدة الأمر وضيقه وصعوبته، وكان ذلك في غزة تبوك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في شدة الحر وقلة من الماء والزاد والظهر، فخص الذين اتبعوه في ساعة العسرة بذكر التوبة لعظم منزلة الاتباع في مثلها وجزيل الثواب الذي يستحق بها لما لحقهم من المشقة مع الصبر عليها وحسن البصيرة واليقين منهم في تلك الحال، إذ لم تغيرهم عنها صعوبة الأمر وشدة الزمان. وأخبر تعالى عن فريق منهم بمقاربة ميل القلب عن الحق بقوله: (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم)، والزيغ هو ميل القلب عن الحق، فقارب ذلك فريق منهم ولما فعلوا ولم يؤاخذهم الله به وقبل توبتهم. وبمثل الحال التي فضل بها متبعيه في حال العسرة على غيرهم فضل بها المهاجرين على الأنصار، وبمثلها فضل السابقين على الناس لما لحقهم من المشقة ولما ظهر منهم من شدة البصيرة وصحة اليقين بالاتباع في حال قلة عدد من المؤمنين واستعلاء أمر الكفار وما كان يلحقهم من قبلهم من الأذى والتعذيب.
قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا)، قال ابن عباس وجابر ومجاهد وقتادة:
" هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع "، قال مجاهد: " خلفوا عن التوبة "، وقال قتادة: " خلفوا عن غزوة تبوك ". وقد كان هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك فيمن تخلف وكانوا صحيحي الاسلام، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا بالباطل، وهم الذين أخبر الله عنهم (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم)، وقال: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) فأمر تعالى بالإعراض عنهم ونهى عن الرضا عنهم، إذ كانوا كاذبين في اعتذارهم مظهرين لغير ما يبطنون. وأما الثلاثة فإنهم كانوا مسلمين صدقوا عن أنفسهم وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا تخلفنا من غير عذر، وأظهروا التوبة والندم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم صدقتم عن أنفسكم فامضوا حتى أنظر ما ينزل الله تعالى فيكم "، فأنزل الله في أمرهم التشديد عليهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يكلمهم وأن يأمر المسلمين أن لا يكلموهم، فأقاموا على ذلك نحو خمسين ليلة، ولم يكن ذلك على معنى رد توبتهم لأنهم قد كانوا مأمورين بالتوبة، وغير جائز في الحكمة أن لا تقبل توبة من يتوب في وقت التوبة إذا فعلها على الوجه المأمور به، ولكنه تعالى أراد تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم ونهى الناس عن كلامهم، وأراد به استصلاحهم واستصلاح
(٢٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 ... » »»