أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٩٩
إحضار المواشي إلى العامل، بل كان على العامل حضور موضع المال في مواضعه وأخذ صدقته هناك، فلذلك لم يبعث على زكوات الأموال السعاة، فكانوا يحملونها إلى الإمام وكان قولهم مقبولا فيها. ولما ظهرت هذه الأموال عند التصرف بها في البلدان أشبهت المواشي فنصب عليها عمال يأخذون منها ما وجب من الزكاة، ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يأخذوا مما يمر به المسلم من التجارات من كل عشرين دينارا نصف دينار ومما يمر به الذمي يؤخذ منه من كل عشرين دينارا دينار ثم لا يؤخذ منه شيء إلا بعد حول، أخبرني بذلك من سمع النبي صلى الله عليه وسلم. وكتب عمر ابن الخطاب إلى عماله أن يأخذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر، وما يؤخذ من المسلم من ذلك فهو الزكاة الواجبة تعتبر فيها شرائط وجوبها من حول ونصاب وصحة ملك، فإن لم تكن الزكاة قد وجبت عليه لم تؤخذ منه، فاحتذى عمر بن الخطاب في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صدقات المواشي وعشور الثمار والزروع، إذ قد صارت أموالا ظاهرة يختلف بها في دار الاسلام كظهور المواشي السائمة والزروع والثمار، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا خالفه، فصار إجماعا مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن عبد العزيز الذي ذكرناه.
فإن قيل: روى عطاء بن السائب عن جرير بن عبد الله عن جده أبي أمه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على المسلمين عشور إنما العشور على أهل الذمة "، وروى حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد ثقيف: " لا تحشروا ولا تعشروا "، وروى إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر العرب احمدوا الله إذ دفع عنكم العشور "، وروي أن مسلم بن يسار قال لابن عمر: أكان عمر يعشر المسلمين؟ قال: لا. قيل له: ليس المراد بذكر هذه العشور الزكاة، وإنما هو ما كان يأخذه أهل الجاهلية من المكس، وهو الذي أريد في حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة صاحب مكس " يعني عاشرا، وإياه عنى الشاعر بقوله:
* وفي كل أموال العراق إتاوة * وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم فالذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم من العشر هو المكس الذي كان يأخذه أهل الجاهلية، فأما الزكاة فليست بمكس وإنما هو حق وجب في ماله يأخذه الإمام فيضعه في أهله كما يأخذ صدقات المواشي وعشور الأرضين والخراج. وأيضا يجوز أن يكون الذي نفي أخذه من
(١٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 194 195 196 197 198 199 200 201 202 203 204 ... » »»