أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٠١
بناء مسجد لليلة الشاتية والمطر والحر، ولم يكن ذلك قصدهم وإنما كان مرادهم التفريق بين المؤمنين وأن يتحزبوا فيصلي حزب في مسجد وحزب في مسجد آخر لتختلف الكلمة وتبطل الألفة والحال الجامعة، وأرادوا به أيضا ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، فيتفاوضون فيما بينهم من غير خوف من المسلمين لأنهم كانوا يخلون فيه فلا يخالطهم فيه غيرهم.
قوله تعالى: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) قال ابن عباس ومجاهد:
أراد به أبا عامر الفاسق، وكان يقال له أبو عامر الراهب قبل، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم عنادا وحسدا لذهاب رياسته التي كانت في الأوس قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال للمنافقين: سيأتي قيصر وآتيكم بجند فأخرج به محمدا وأصحابه، فبنوا المسجد إرصادا له، يعني مترقبين له. وقد دلت هذه الآية على ترتيب الفعل في الحسن أو القبح بالإرادة، وأن الإرادة هي التي تعلق الفعل بالمعاني التي تدعو الحكمة إلى تعليقه به أو تزجر عنها، لأنهم لو أرادوا ببنائه إقامة الصلوات فيه لكان طاعة لله عز وجل، ولما أرادوا به ما أخبر الله تعالى به عنهم من قصدهم وإرادتهم كانوا مذمومين كفارا.
قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) فيه الدلالة على أن المسجد المبني لضرار المؤمنين والمعاصي لا يجوز القيام فيه وأنه يجب هدمه، لأن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام في هذا المسجد المبني على الضرار والفساد وحرم على أهله قيام النبي صلى الله عليه وسلم فيه إهانة لهم واستخفافا بهم، على خلاف المسجد الذي أسس على التقوى. وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أولى بفعل الصلاة فيه من بعض وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها، ويدل على فضيلة الصلاة في المسجد بحسب ما بني عليه في الأصل، ويدل على فضيلتها في المسجد السابق لغيره لقوله: (أسس على التقوى من أول يوم) وهو معنى قوله تعالى: (أحق أن تقوم فيه) لأن معناه أن القيام في هذا المسجد لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا المسجد الذي أسس على التقوى أحق بالقيام فيه من غيره، وذلك أن مسجد الضرار لم يكن مما يجوز القيام فيه لنهي الله تعالى نبيه عن ذلك، فلو لم يكن المعنى ما ذكرنا لكان تقديره: لمسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من مسجد لا يجوز القيام فيه، ويكون بمنزلة قوله فعل الفرض أصلح من تركه، وهذا قد يسوغ، إلا أن المعنى الأول هو وجه الكلام.
وقد اختلف في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو، فروي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أنه مسجد المدينة. وروي عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري عن
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»