أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٠٦
سهامهما بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة والقتال، إذ كان الدخول بمنزلة حيازة الغنائم وقتلهم وأسرهم. ونظيره في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) [الحشر: 6]، فاقتضى ذلك اعتبار إيجاف الخيل والركاب في دار الحرب، ولذلك قال علي رضي الله عنه: " ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ".
قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين). روي عن ابن عباس أنه نسخ قوله: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) [النساء: 71] وقوله: (انفروا خفافا وثقالا)، فقال تعالى: ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحده، ولكن تبقى بقية لتتفقه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم. وقال الحسن: " لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة "، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم. وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تتفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها، وهو بعيد من وجهين، أحدهما أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه، فوجب على هذا أن يكون قوله: (منهم طائفة ليتفقهوا) أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر، ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة، لأنه يقتضي إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه. والوجه الثاني: أن قوله: (ليتفقهوا في الدين) الطائفة أولى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة، وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله، والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقهها وهو لأجل خروج الطائفة منها، لأنها إنما تتفقه بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت، منها، فحمل الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى: (ليتفقهوا في الدين)، فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية، لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه، وأمر الباقين بالقعود لقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة). وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم "، وهذا عندنا ينصرف على معنيين، أحدهما: طلب العلم فيما يبتلى به الانسان من أمور دينه فعليه أن يتعلمه، مثل من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه أن يتعلمها، ومثل من ملك مائتي
(٢٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 201 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 ... » »»