غيرهم من المسلمين لئلا يعودوا ولا غيرهم من المسلمين إلى مثله لعلم الله فيهم بموضع الاستصلاح، وأما المنافقون الذين اعتذروا فلم يكن فيهم موضع استصلاح بذلك فلذلك أمر بالإعراض عنهم، فثبت بذلك أن أمر الناس بترك كلامهم وتأخير إنزال توبتهم لم يكن عقوبة وإنما كان محنة وتشديدا في أمر التكليف والتعبد، وهو مثل ما نقوله في إيجاب الحد الواجب على التائب مما قارب أنه ليس بعقوبة وإنما هو محنة وتعبد، وإن كان الحد الواجب بالفعل بديا كان يكون عقوبة لو أقيم عليه قبل التوبة.
قوله تعالى: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) يعني مع سعتها (وضاقت عليهم أنفسهم) يعنى ضاقت صدورهم بالهم الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن ترك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم.
قوله تعالى: (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) يعني أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قبل العبادة له والرغبة إليه، فحينئذ أنزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم، وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أنه لا كاشف لهمه غيره أنه سينجيه ويكشف عنه غمه، وكذلك حكى جل وعلا عن لوط عليه السلام في قوله:
(ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) [هود:
77] إلى أن قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) [هود: 80]، فتبرأ من الحول والقوة من قبل نفسه ومن قبل المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى، حينئذ جاءه الفرج فقالوا: (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) [هود: 81]، وقال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) [الطلاق: 2]، ومن ينو الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه، فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجا لعلمه بأنه لا ينفك من إحدى منزلتين: إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكي عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب: (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) [ص: 41] فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به، ولم يكن صلوات الله عليه قابلا لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أولى به، فقال الله له عند ذلك: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) [ص: 42]، فكذلك كل من اتقى الله بأن التجأ إليه وعلى أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها.
قوله تعالى (ثم تاب عليهم ليتوبوا) يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل