أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٨٧
شيء فلا سبيل عليه فيه. ويحتج به في مسائل مما قد اختلف فيه، نحو من استعار ثوبا ليصلي فيه أو دابة ليحج عليها فتهلك، فلا سبيل عليه في تضمينه لأنه محسن، وقد نفى الله تعالى السبيل عليه نفيا عاما، ونظائر ذلك مما يختلف في وجوب الضمان عليه بعد حصول صفة الإحسان له، فيحتج به نافو الضمان. ويحتج مخالفنا في اسقاط ضمان الجمل الصؤول إذا قتله من خشي أن يقتله بأنه محسن في قتله للجمل، وقال الله تعالى:
(ما على المحسنين من سبيل) ونظائره كثيرة.
قوله تعالى: (فأعرضوا عنهم إنهم رجس)، هو كقوله: (إنما المشركون نجس)، لأن الرجس يعبر به عن النجس، ويقال: رجس نجس على الاتباع، وهذا يدل على وجوب مجانبة الكفار وترك موالاتهم ومخالطتهم وإيناسهم وتقويتهم.
وقوله تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) يدل على أن الحلف على الاعتذار ممن كان متهما لا يوجب الرضا عنه وقبول عذره، لأن الآية قد اقتضت النهي عن الرضا عن هؤلاء مع أيمانهم. وقال في هذه الآية: (يحلفون) ولم يقل " بالله "، وقال في الآية الأولى: (سيحلفون بالله) فذكر اسم الله في الحلف في الأولى واقتصر في الآية الثانية على ذكر الحلف، فدل على أنهما سواء. وقال في موضع آخر: (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) [المجادلة: 14]، وكذلك قال الله تعالى في القسم، فقال في موضع: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) [الأنعام: 109] وقال في موضع آخر: (إذ أقسموا ليصر منها مصبحين) [القلم: 17]، فاكتفى بذكر الحلف عن ذكر اسم الله تعالى، وفي هذا دليل على أنه لا فرق بين قول القائل " احلف " وبين قوله " احلف بالله " وكذلك قوله: " أقسم " و " أقسم بالله ".
قوله تعالى: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله). أطلق هذا الخبر عن الأعراب ومراده الأعم الأكثر منهم، وهم الذين كانوا يواطنون المنافقين على الكفر والنفاق، وأخبر أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، وذلك لقلة سماعهم للقرآن ومجالستهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم أجهل من المنافقين الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قد كانوا يسمعون القرآن والأحكام، فكان الأعراب أجهل بحدود الشرائع من أولئك، وكذلك هم الآن في الجهل بالأحكام والسنن وفي سائر الأعصار وإن كانوا مسلمين، لأن من بعد من الأمصار وناء عن حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسنن ممن جالسهم وسمع منهم، ولذلك كره أصحابنا إمامة الأعرابي في الصلاة. ويدل على أن إطلاق اسم الكفر والنفاق على الأعراب خاص في بعضهم دون بعض قوله تعالى في نسق التلاوة: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما
(١٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 ... » »»