أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٨٥
عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) [الحديد: 27]، والابتداع قد يكون بالقول وبالفعل، فاقتضى ذلك إيجاب كل ما ابتدعه الانسان من قربة قولا أو فعلا لذم الله تعالى تارك ما ابتدع من القربة. وقد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في النذر، وهو قوله:
" من نذر نذرا وسماه فعليه الوفاء به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين ".
قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم). قال الحسن: " بخلهم بما نذروه أعقبهم النفاق ". وقال مجاهد: " أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس ". ومعناه نصب الدلالة على أنه لا يتوب أبدا ذما له على ما كسبته يده.
وقوله: (إلى يوم يلقونه)، قيل فيه: " يلقون جزاء بخلهم "، ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله تعالى.
قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). فيه إخبار بأن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا يوجب لهم المغفرة، ثم قال: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ذكر السبعين على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة.
وقد روي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: " لأزيدن على السبعين " وهذا خطأ من راويه، لأن الله تعالى قد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل الله مغفرة الكفار مع علمه بأنه لا يغفر لهم، وإنما الرواية الصحيحة فيه ما روي أنه قال: " لو علمت أني لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت عليها "، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم، فكانوا إذا مات الميت منهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستغفار له فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون، فأعلمه الله تعالى أنهم ماتوا منافقين وأخبر مع ذلك أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا ينفعهم.
قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)، فيه الدلالة على معان، أحدها: فعل الصلاة على موتى المسلمين وحظرها على موتى الكفار. ويدل أيضا على القيام على القبر إلى أن يدفن، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يفعله. وقد روى وكيع عن قيس بن مسلم عن عمير بن سعد: " أن عليا قام على قبر حتى دفن ". وروى سفيان الثوري عن أبي قيس قال: " شهدت علقمة قام على قبر حتى دفن ". وروى جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير: " أن ابن الزبير كان إذا مات له ميت لم يزل قائما حتى ندفنه ". فهذا يدل على أن السنة لمن حضر عند القبر أن يقوم عليه حتى يدفن.
ومن الناس من يستدل بذلك على جواز الصلاة على القبر، وجعل قوله: (ولا تقم على قبره) قيام الصلاة على القبر، وهذا خطأ من التأويل لأنه تعالى قال: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على
(١٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 ... » »»