ففعل وكتب لي بذلك كتابا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ولا غيره حتى حكم فيها من السماء فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها ". قيل له: هذا يدل على صحة ما قلنا، لأنه قال: " إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه ولم يسأله من أي الأصناف هو، فدل ذلك على أن قوله: " إن الله تعالى جزأها ثمانية أجزاء " معناه ليوضع في كل جزء منها جميعها إن رأى ذلك الإمام ولا يخرجها عن جميعهم. وأيضا فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما جميعا، وفاسد أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين، أحدهما: أنه يوجب أن يستحقها كل غارم وكل ابن سبيل وإن كان غنيا، وهذا باطل. والوجه الثاني: أنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر وابن السبيل أن يستحق سهمين، فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة.
فإن قيل: قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية، يقتضي إيجاب الشركة، فلا يجوز اخراج صنف منها، كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم. قيل له: هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات، وكذلك نقول، فيعطى صدقة العام صنفا واحدا ويعطى صدقة عام آخر صنفا آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه، وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها، وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة وإنما فيها حكم الصدقات كلها، فتقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقها من مقتضاها واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول السلف، فذلك أولى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ورد أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا. وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيان لأن المسمين لهم محصورون، وكذلك والثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة. وأيضا فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسمين لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض، ولا جائز اخراج بعض الموصى لهم. وأيضا لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة، كذلك جاز حرمان بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء، ففارق الوصايا من هذا الوجه. وأيضا لما كانت الصدقة حقا لله تعالى لا لآدمي بدلالة أنه لا مطالبة لآدمي يستحقها لنفسه، فأي صنف أعطى فقد وضعها موضعها، والوصية لأعيان حق لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها،