النصاب الكامل فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة، ومعلوم أن الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها، فلا يحصل له التمكين من الانتفاع إلا وهو غني، فكره من أجل ذلك دفع نصاب كامل، ومتى دفع إليه أقل من النصاب فإنه يملكه ويحصل له الانتفاع بها وهو فقير فلم يكرهه، إذ القليل والكثير سواء في هذا الوجه إذا لم يصر غنيا، فالنصاب عند وقوع التمليك والتمكين من الانتفاع. وأما قول أبي حنيفة:
" وأن يغني بها انسان أحب إلي " فإنه لم يرد به الغنى الذي تجب عليه به الزكاة وإنما أراد أن يعطيه ما يستغنى به عن المسألة ويكف به وجهه ويتصرف به في ضرب من المعاش.
واختلف فيمن أعطى زكاته رجلا ظاهره الفقر فأعطاه على ذلك ثم تبين أنه غني، فقال أبو حنيفة ومحمد: " يجزيه، وكذلك إن دفعها إلى ابنه أو إلى ذمي وهو لا يعلم ثم علم أنه يجزيه ". وقال أبو يوسف: " لا يجزيه ". وذهب أبو حنيفة في ذلك إلى ما روي في حديث معن بن يزيد أن أباه أخرج صدقة فدفعها إليه ليلا وهو لا يعرفه، فلما أصبح وقف عليه فقال: ما إياك أردت، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " لك ما نويت يا يزيد " وقال لمعن: " لك ما أخذت "، ولم يسأله أنويتها من الزكاة أو غيرها بل قال: " لك ما نويت "، فدل على جوازها إن نواها زكاة. وأيضا فإن الصدقة على هؤلاء قد تكون صدقة صحيحة من وجه في غير حال الضرورة، وهو أن يتصدق عليهم صدقة التطوع فأشبهت من هذا الوجه الصلاة إلى الكعبة إذا أداها باجتهاد صحيح ثم تبين أنه أخطأها كانت صلاته ماضية، إذ كانت الصلاة إلى غير جهة الكعبة قد تكون صلاة صحيحة من غير ضرورة وهو المصلي تطوعا على الراحلة، فكان إعطاء الزكاة باجتهاد مشبها لأداء الصلاة باجتهاد على النحو الذي ذكرنا.
فإن قيل: إنما يشبه مسألة الزكاة من توضأ بماء يظنه طاهرا ثم علم أنه كان نجسا فلا تجزيه صلاته لأنه صار من اجتهاد إلى يقين، كذلك مؤدي الزكاة إلى غني أو ابنه أو ذمي إذا علم فقد صار من اجتهاد إلى يقين، فبطل حكم اجتهاده ووجبت عليه الإعادة.
قيل له: ليس كذلك، لأن الوضوء بالماء النجس لا يكون طهارة بحال فلم يكن للاجتهاد تأثير في جوازه وترك القبلة جائز في أحوال، فمسألتنا بما ذكرناه أشبه.
فإن قيل: الصلاة قد تجوز في الثوب النجس في حال ومع ذلك فلو أداها باجتهاد منه في طهارة الثوب ثم تبين النجاسة بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة، ولم يكن جواز الصلاة في الثوب النجس بحال موجبا لجواز أداءها بالاجتهاد متى صار إلى يقين النجاسة. قيل له: أغفلت معنى اعتلالنا، لأنا قلنا إن ترك القبلة جائز من غير ضرورة كجواز إعطاء هؤلاء من صدقة التطوع من غير ضرورة فكانا متساويين من هذا الوجه، ألا