أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٦٧
لمن عنده ما يغنيه في الوقت لا سيما في أول ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع كثرة فقراء المسلمين وقلة ذات أيديهم، فاستحب النبي صلى الله عليه وسلم لمن عنده ما يكفيه ترك المسألة ليأخذها من هو أولى منه ممن لا يجد شيئا، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم: " من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن لا يسألنا أحب إلينا ممن يسألنا "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ". وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن الحسين بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للسائل حق وإن جاء على فرس "، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء السائل مع ملكه للفرس، والفرس في أكثر الحال تساوي أكثر من أربعين درهما أو خمسين درهما. وقد روى يحيى بن آدم قال: حدثنا علي بن هاشم عن إبراهيم بن يزيد المكي عن الوليد بن عبيد الله عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي أربعين درهما أفمسكين أنا؟ قال: " نعم ". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال: حدثنا أبو موسى الهروي قال: حدثنا المعافى قال: حدثنا إبراهيم بن يزيد الجزري قال: حدثنا الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله عندي أربعون درهما أمسكين أنا؟ قال: " نعم "، فأباح له الصدقة مع ملكه لأربعين درهما حين سماه مسكينا، إذ كان الله قد جعل الصدقة للمساكين. وروى أبو يوسف عن غالب بن عبيد الله عن الحسن قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أحدهم الصدقة وله من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم ". وروى الأعمش عن إبراهيم قال: " كانوا لا يمنعون الزكاة من له البيت والخادم ". وروى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: " من له مسكن وخادم أعطي من الزكاة ". وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: " يعطى من له دار وخادم وفرس وسلاح، يعطى من إذا لم يكن له ذلك الشيء واحتاج إليه ".
وقد اختلف في ذلك من وجه آخر، فقال قائلون " من كان قويا مكتسبا لم تحل له الصدقة وإن لم يملك شيئا "، واحتجوا بما روى أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي "، ورواه أبو بكر بن عياش أيضا عن أبي جعفر عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب "، وهذا عندنا على وجه الكراهة لا على جهة التحريم، على النحو الذي ذكرنا في كراهة المسألة.
فإن قيل: قوله: " لا تحل الصدقة لغني " على وجه التحريم وامتناع جواز إعطائه الزكاة، كذلك القوي المكتسب. قيل له: يجوز أن يريد الغني الذي يستغني به عن
(١٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 162 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 ... » »»