أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٥١
صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار، ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار، كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا، وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه.
فإن قيل: أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا، فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار. قيل له: إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه، ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في جواز فركه؟ فأما بدن الانسان فلا يختلف حكم شئ منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات، وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها، فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن. وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف أنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل. فيقال لهم: إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الانسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه، وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها، فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له، فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء، كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه أنه يجزي، لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه، فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له.
فصل ويستدل بقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) الآية، على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء، وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض على ما يرى المتوضئ، وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي. وقال الشافعي: " لا يجزيه غسل الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين ". وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء، وذلك لأنه روي عن علي وعبد الله وأبي هريرة:
" ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي "، ولا يروى عن أحد من السلف والخلف فيما نعلم مثل قول الشافعي. وقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية، يدل من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب، أحدها: مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب، إذ كانت " الواو " ههنا عند
(٤٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 446 447 448 449 450 451 452 453 454 455 456 ... » »»