على أنها ملغاة. ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت: " مسحت يدي بالحائط " كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه، ولو قلت: " مسحت الحائط " كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه، فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين اسقاطها في العرف واللغة، فوجب إذ كان ذلك كذلك أن نحمل قوله: (وامسحوا برؤوسكم) على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها. والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقولك: " كتبت بالقلم " و " مررت بزيد " فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فيكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته. ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) قال: إذا مسح ببعض الرأس أجزأه، قال: ولو كانت " امسحوا رؤوسكم " كان مسح الرأس كله. فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها. ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض، وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض، وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض، إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه، وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده.
فإن قيل: لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول: " مسحت برأسي كله " كما لا تقول: " مسحت ببعض رأسي كله ". قيل له: قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة، فإذا قال: " مسحت برأسي كله " علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة، وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها، كما أن " من " حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة للكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى: (ما لكم من إله غيره) [الأعراف: 59] و (ويغفر لكم من ذنوبكم) [الأحقاف: 31] ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة.
وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف، منهم ابن عمر، روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه، وعن عائشة مثل ذلك. وقال الشعبي: " أي جانب رأسك مسحت أجزأك " وكذلك قال إبراهيم. ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا يونس عن ابن سيرين قال:
أخبرني عمرو بن وهب قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: خصلتان لا أسأل عنهما