ومن شواهد ما ذكرناه هو الاطراب في معنى التوفي وما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإماتة في معنى التوفي. والكثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران آية " 48 " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى " قالوا أي يمتك. وقال بعض مميتك حتف انفك: وقال بغض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وكأنهم لم ينعموا الالتفات إلى مادة التوفي واشتقاقه ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة واعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت لم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. وإلى أن القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله ان المسيح قال لله " فلما توفيتني " ومن كل ذلك لم يفطنوا إلى أن معنى التوفي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقاته إنما هوا لأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء. وإن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر آية " 43: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قض عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ألا ترى انه لا يستقيم الكلام إذا قيل الله يميت الأنفس حين موتها وكيف يصح أن التي لم تمت يمتها في منامها. وكما في قوله تعالى في سورة الأنعام " 60: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم " فإن توفى الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم مم يبعثهم الله باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد. وكما في قوله تعالى في سورة النساء " 19:
حتى يتوفاهن الموت " فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهن الموت وحاصل الكلام ان معنى التوفي في مواد استعماله في القرآن وغيره إنما هو أخذ الشئ وافيا أي تاما كما يقال درهم واف وهذا المعنى ذكره اللغويون للتوفي في معاجمهم وقالوا ان توفاه واستوفاه بمعنى واحد وأنشدوا له قول الشاعر:
إن بنى الأدرد ليسوا لأحد * ولا توفاهم قريش في العدد أي لا تتوفاهم وتأخذهم تماما (قلت) لكن بين الاستيفاء والتوفي فرقا واضحا من جهة أثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استفعال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ واستدعائه ومعالجته، والتوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ولذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي وعدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام والوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في إنا لله وإنا إليه راجعون. ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " فإنك إن جعلت قوله تعالى " والتي لم تمت " معطوفا على الأنفس لم تقدر ان تقول ان معنى يتوفى يميت. وإن قلت إن التوفي في المنام مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا ومعنى مجازيا ويتعلق باعتبار كل معنى بمفعول ويعطف أحد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. وعلى يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. وإن جعلت قوله تعالى: " والتي لم تمت " مفعولا لكلمة " يتوفى " مقدرة يدل عليها قوله تعالى " يتوفى الأنفس " قلنا إن دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام في كل لغة فكيف يجعل التوفي بمعنى الموت دليلا على توف محذوف هو بمعنى آخر.. إذن فليس إلا أن التوفي بمعنى واحد وهو الأخذ تماما ووافيا. إما من عالم الحياة. وإما من عالم اليقظة. وإما من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح وأخذه ومن الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشئ تاما انتهى. وليت شعري ماذا بقي من المسيح في الأرض وماذا تعاصى منه على قدرة الله في أخذه فلا يكون رفعه مشتملا على اخذ الشئ تاما. هذا ولا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ورفعه الله إليه، وإن عقيدة المسلمين مستمرة كإجماعهم على أنه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسر التوفي بالإماتة إلى أن يفسر قوله تعالى " يا عيسى إني متوفيك " أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ولكني لا أدرى ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في آخر سورة المائدة