أي ينهض بالوسق بتكلف وجهد على عكس المعنى المذكور في القرآن، أفهل ترى ابن عباس يفسر " تنوء " التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب إليه اعتراض النصارى بأن القرآن جاء بلفظة " لتنوء " في غير محلها.
وهل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوء بالوسق ليس بثقل بل ينهض به بتكلف. وهل ترى ابن عباس لا يدرى ببيت المعلقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما. كيف وإن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ولكن " حن قدح ليس منها " وقد خرجنا عما نؤثره من الاختصار ولكنا ما خرجنا عن المقصود الأصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شئ من الخبر والله المسدد الموفق.
(المقام الثاني) لا يخفى ان القرآن الكريم مبنى على أرق أنحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته بما كان مأنوس للفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه.
وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كل سامع عربي ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريبا في العامة وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم والتدرب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل ولا وقوف عند الأسماء ولا جمود على قشور القواعد التي مهدها المتدربون في العربية من الخواص اقتباسا بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا وفاتهم من أسرارها وحقائقها الشئ الكثير. وربما أدت بهم وعورة البحث والجمود على التقليد إلى عثرات الوهم أو احجام الشكوك.
انظر إلى أن جماعة من النحويين كالشراح لألفية ابن مالك وغيرهم قالوا في قول الراجز " جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط " ان التقدير بمذق مقول فيه هل رأيت ألخ ولا يخفى ان الراجز يريد وصف المزق بما يبين حاله وتبدل لونه بكثرة الماء وماذا يجدى في ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط ولم يفطنوا إلى أن الصفة التي بريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد أشار إليها باستفهامه إلى هو بمنزلة التمشيل الحسى لها فكأنه قال جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان. ومن شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي ومعرفته بفذلكات الكلام اضطرب كلامه وتفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد وهو قوله تعالى " لا أقسم " ففي سورة الواقعة في قوله تعالى " لا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " قال فأقسم وان " لا " مزيد مثلها في قوله " لئلا يعلم أهل الكتاب " وفي قوله تعالى " لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة " قال إدخال " لا " النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:
(ولا وأبيك ابنة العامري * لا يدعى القوم أنى أفر) وقال غوبة بن سلمة (ألا نادت أمامة باحتمال * لتحزنني فلا بك لا أبالي) وفائدتها توكيد القسم، وقالوا إنها صلة أي زائدة مثلها في " لئلا يعلم أهل الكتاب " وقال في ذلك كلاما فيه ما فيه وقال:
والوجه ان يقال هو للنفي والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشئ إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " فكأنه بإدخال حرف النفي يقول إنه إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام يعنى ان يستأهل فوق ذلك انتهى. ومقتضى بيانه هذا ان يقول إعظاما للمقسم به فإنه أوضح للبيان من مثله. وليته لم يخلط بين دخول " لا " على فعل القسم كما في الآيتين وبين دخولها على حرف القسم كما في يبقى امرئ القيس وغوية وغيرها مما لا يقع