ويمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الاشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم كما قالوا لصالح عليه السلام: " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا " هود: 62، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.
وقد فسر المسرفين وهم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: " الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون " إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله ولا تطيعوا أمر المسرفين لانهم مفسدون في الأرض غير مصلحين والافساد لا يؤمن معه العذاب الإلهي وهو عزيز ذو انتقام.
وذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد والتزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار كالأمر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها واختلافها الشديد بالارتفاع والانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون وهو الغاية العالم الانساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الانسان بما له من القوى والأدوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله وأعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها وقد جهز بعقل يميز بين الخير والشر ويعطي كل ذي حق حقه.
فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة وهو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل والانحراف إفسادا للنظام المرسوم، ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل، ومن الضروري أن خروج بعض الاجزاء عن خطه المخطوط له وإفساد النظم المفروض له ولغيره يستعقب منازعة بقية الاجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الاعتدال فهو وإلا أفنته وعفت آثاره حفظا لصلاح الكون واستبقاء لقوامه.
والانسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له وإن تعدي حدود فطرته وأفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد قال تعالى: " ظهر الفساد فالبر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم