وهي - كما تقدم - أول ما نزلت في الجهاد، وقيل: أول ما نزل فيه قول تعالى:
" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " البقرة: 190، وقيل: إنه قوله: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " الآية التوبة 111.
والاعتبار يستدعى أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا وذلك لاشتمالها على الاذن صريحا واحتفافها بالتوطئة والتمهيد وتهييج القوم وتقوية قلوبهم وتثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا وتصريحا وذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم وكل ذلك من لوازم تشريع الاحكام الهامة وبيانها وإبلاغها لأول مرة وخاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية والتفدية وهو أشق حكم اجتماعي وأصعبه في الاسلام وأمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام واستيقاظ الافهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.
فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم. ثم نص على إذنهم في القتال وذكر أنهم مظلومون والقتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة ووصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم وأنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.
قوله تعالى: " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " المدافعة مبالغة في الدفع، والخوان اسم مبالغة من الخيانة وكذا الكفور من الكفران والمراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة وإن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لان الآيات تشرع القتال ولا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، والمورد لا يكون مخصصا.
والمراد بكل خوان كفور المشركون، وإنما كانوا مكثرين في الخيانة والكفران لان الله حملهم أمانة الدين الحق وجعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه ورعايته سعادة الدارين وعرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد والانكار وغمرهم بنعمه الظاهرة والباطنة فكفروا بها ولم يشكروه بالعبودية.
وفي الآية تمهيد لما في الآية التالية من الاذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا وإنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء ولا يحب أولئك لخيانتهم وكفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم وشكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.