ويظهر بذلك أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب وإلا لقالوا: " ربنا أعلم بما لبثنا ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " فإن إظهار الأدب لا يسمى قولا وإحصاء ولا الآتي به ذا قول وإحصاء.
والظاهر أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " غير القائلين: " لبثنا يوما أو بعض يوم " فان السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا ولو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: " ربكم أعلم " الخ.
ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم " قال " مرة و " قالوا " مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.
وقوله تعالى: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه " من تتمة المحاورة وفيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشترى لهم طعاما يتغذون به والضمير في " أيها " راجع إلى المدينة والمراد بها أهلها من الكسبة استخداما.
وزكاء الطعام كونه طيبا وقيل: كونه حلالا وقيل: كونه طاهرا ووروده بصيغة أفعل التفضيل " أزكى طعاما لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.
والضمير " في " منه للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للأزكى طعاما و " من " للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الا زكى برزق ترتزقون به، وقيل:
الضمير للورق و " من " للبداية وهو بعيد لا حواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.
وقوله تعالى: " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " التلطف إعمال اللطف والرفق وإظهاره فقوله: ولا يشعرن بكم أحدا عطف تفسيري له والمراد على ما يعطيه السياق ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل