والآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معنا ها، وسعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكة تعالى على الأشياء وآثارها تعطى في الكفر والايمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق " ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وانما خوطبوا بأهل الكتاب - وهو وصف مشترك - اشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضى أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه، ومما بينه أن لا يقولوا عليه الا الحق.
وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، وقولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله " (التوبة: 30) وقال تعالى: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (التوبة: 31)، وقال تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم - إلى أن قال - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " (آل عمران: 64). وعلى هذا فقوله: " انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله " (الخ) تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله "، تعليلا لقوله: " لا تغلوا في دينكم "، ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله " انما المسيح " أي المبارك " عيسى بن مريم " تصريح بالاسم واسم الام ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير، وليكون دليلا على كونه انسانا مخلوقا كأي انسان ذي أم. " وكلمته ألقاها إلى مريم " تفسير لمعنى الكلمة فإنه كلمة " كن " التي ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب، قال تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (آل عمران: 47) فكل شئ كلمة له تعالى غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، والذي اختص لأجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده " وروح منه " والروح من الامر، قال تعالى:
" قل الروح من أمر ربى " (أسرى: 85) ولما كان عيسى عليه السلام كلمة " كن " التكوينية وهى أمر فهو روح.