ومن هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلخ ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير والمنكر فيه هو الشر ولولا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر كون الخير والشر معروفا ومنكرا بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.
وأما قوله ولتكن منكم أمة فقد قيل إن من للتبعيض بناء على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية.
وربما قيل إن من بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح أمة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا ليكن لي منك صديق أي كن صديقا لي والظاهر أن المراد بكون من بيانية كونها نشوئية ابتدائية.
والذي ينبغي أن يقال أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والامر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالامر قائم بالبعض على أي حال والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك وإن كان للكل كان أيضا باعتبار البعض وبعبارة أخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض ولذلك عقبه بقوله وأولئك هم المفلحون فالظاهر أن من تبعيضية وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.
واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.
قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البينات لا يبعد أن يكون قوله من بعد ما جائهم البينات متعلقا بقوله واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد بالتفرق الاختلاف والتشتت