الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١٤٧
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون. فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين.
____________________
فمعنى (يوم يكشف عن ساق) في معنى يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل، وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان.
والذي غره منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه " يكشف الرحمن عن ساقة، فأما المؤمنون فيخرون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأن فيها السفافيد " ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهى ساق الرحمن. فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف كقوله - يوم يدع الداع إلى شئ نكر - كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل. وعن أبي عبيدة: خرج من خراسان رجلان: أحدهما شبه حتى مثل وهو مقاتل بن سليمان، والآخر نفى حتى عطل وهو جهم بن صفوان، ومن أحس بعظم مضار فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه. وقرئ يوم نكشف بالنون وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعا والفعل للساعة أو للحال: أي يوم تشتد الحال أو الساعة كما تقول كشفت الحرب عن ساقها على المجاز. وقرئ تكشف بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف، ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا وناصب الظرف فليأتوا أو إضمار أذكر، أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ وأن ثم من الكوائن مالا يوصف لعظمه.
عن ابن مسعود رضي الله عنه: تعقم أصلابهم: أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثنى عند الرفع والخفض. وفى الحديث " وتبقى أصلابهم طبقا واحدا " أي فقارة واحدة. فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت: لا بدعون إليه تعبدا وتكليفا ولكن توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيرا لهم وتنديما على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالمون الأصلاب والمفاصل يمكنون مزاحا العلل فيما تعبدوا به. يقال ذرني وإياه يريدون كله إلى فإني أكفيكه، كأنه يقول: حسبك إيقاعا به أن تكل أمره إلى وتخلى بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد حسبي مجازيا لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل على في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمكذبين.
استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه، واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقا إلى ازدياد الكفر والمعاصي (من حيث لا يعلمون) أي من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم يحسبونه إيثارا لهم وتفضيلا على المؤمنين وهو سبب لهلاكهم (وأملى لهم) وأمهلهم كقوله تعالى - إنما نملى لهم ليزدادوا إثما - والصحة والرزق والمد في العمر إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. وقيل كم من مستدرج بالإحسان إليه؟ وكم من مفتون بالثناء عليه؟ وكم من مغرور بالستر عليه.
(١٤٧)
مفاتيح البحث: السجود (2)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 ... » »»