الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٩٤
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا.
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا.
ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا. وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا.
____________________
وهو حب الرياسة وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الانعام؟ قلت: لان الانعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها وتعرف من يحسن إليها ممن يسئ إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدى لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني. والعذب: الروى (ألم تر إلى ربك) ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته. ومعنى مد الظل أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس (ولو شاء لجعله ساكنا) أي لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة غير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان زائلا ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه أنه ينسخه بضح الشمس (يسيرا) أي على مهل، وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شئ من المنافع مالا يعد ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب لعدم النير - ولو شاء لجعله ساكنا - مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل: أي سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهى الاجرام التي تلقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله - قبضناه إلينا - يدل عليه وكذلك قوله - يسيرا - كما قال - ذلك حشر علينا يسير - شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت، والمسبوت: الميت لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله - وهو الذي يتوفاكم بالليل - فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق، وهذه الآية
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 ... » »»