الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٤٨٦
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون
____________________
هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا تولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته. ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأن الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها فلم يسو بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالى وخدما ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويتراقدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا، وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى، وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام، ثم قال (ورحمت ربك) يريد وهذه الرحمة وهى دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. فإن قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع ومنهم من يعيش بالحلال ومنهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال. قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهى مطاعمه ومشاربه وما يصلحهم من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا وسماها رزق الله، وإذا لم يسلكها تناولها حراما وليس له أن يسميها رزق الله، فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسونها صفة
(٤٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 481 482 483 484 485 486 487 488 489 490 491 ... » »»