الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٤٧٥
* أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير * وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
____________________
الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور وبعضا بالصنفين جميعا ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولدا قط. فإن قلت: لم قدم الإناث أولا على الذكور مع تقدمهم عليهن ثم رجع فقدمهم، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته، وذكر قسمة الأولاد فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء وأخر الذكور، فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقدم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال (ذكرانا وإناثا) كما قال - إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى - وقيل نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ولإبراهيم ذكورا ولمحمد ذكورا وإناثا وجعل يحيى وعيسى عقيمين (إنه عليم) بمصالح العباد (قدير) على تكوين ما يصلحهم (وما كان لبشر) وما صح لأحد من البشر (أن يكلمه الله إلا) على ثلاثة أوجه:
إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب، أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده، وعن مجاهد أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره، قال عبيد بن الأبرص:
وأوحى إلى الله أن قد تأمروا * بإبل أبى أوفى فقمت على رجل أي ألهمني وقذف في قلبي، وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن ينصر السامع من يكلمه لأنه في ذاته غير مرئي، وقوله (من وراء حجاب) مثل: أي كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب فيسمع صوته ولا يرى شخصه وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة، وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة (أو يرسل رسولا) أي نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ووحيا وأن يرسل مصدران واقعان موقع الحال لأن أن يرسل في معنى إرسالا ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى (وعلى جنوبهم - والتقدير: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. ويجوز أن يكون وحيا موضوعا موضع كلاما لأن الوحي كلام خفى في سرعة كما تقول: لا أكلمه إلا جهرا وإلا خفاتا، لأن الجهر والخفات ضربان من الكلام، وكذلك إرسالا جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة تقول قلت لفلان كذا وإنما قاله وكيلك أو رسولك، وقوله أو من وراء حجاب معناه: أو إسماعا من وراء حجاب، ومن جعل وحيا في معنى أن يوحى وعطف يرسل عليه على معنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا: أي إلا بأن يوحى أو بأن يرسل فعليه أن يقدر قوله أو من وراء حجاب تقديرا يطابقهما عليه نحو أو أن يسمع من وراء حجاب.
(٤٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 470 471 472 473 474 475 476 477 478 479 480 ... » »»