الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٥٥
أم لكم سلطان مبين. فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين. وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون. سبحان الله عما يصفون. إلا عباد الله المخلصين. فإنكم وما تعبدون. ما أنتم عليه بفاتنين. إلا من هو صال الجحيم.
____________________
أوقعها دخيلة بين نسيبين. وقرئ تذكرون من ذكر (أم لكم سلطان) أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله (فأتوا بكتابكم) الذي أنزل عليكم في ذلك كقوله تعالى - أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون - وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم وإنكار فظيع واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش وتجهيل نفوسها واستركاك عقولها مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدث به نفسا فضلا أن يجعله معتقدا ويتظاهر به مذهبا (وجعلوا) بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة (نسبا) وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى: وجعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت: لم سمى الملائكة جنة؟ قلت: قالوا الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك، فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك، ومثاله أن تسوى بين الملك وبين بعض خواصه ومقربيه فيقول لك أتسوي بيني وبين عبدي، وإذا ذكره في غير هذا المقام وقره وكناه. والضمير في (إنهم لمحضرون) للكفرة، والمعنى: أنهم يقولون، ما يقولون في الملائكة وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب حيث أضيف إلى علم الذين ادعوا لهم تلك النسبة. وقيل قالوا إن الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل قالوا إن الله والشيطان أخوان. وعن الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله، ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين أن يكون الضمير في إنهم لمحضرون لهم، والمعنى: أن الشياطين عالمون بأن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم (إلا عباد الله المخلصين) استثناء منقطع من المحضرين معناه: ولكن المخلصين ناجون، وسبحان الله اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه، ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون: أي يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصين برآء من أن يصفوه به.
والضمير في (عليه) لله عز وجل، ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسو أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت:
يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم من قولك فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه وخيبها عليه.
ويجوز أن يكون الواو في وما تعبدون بمعنى مع مثلها في قولهم كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته وإن كل رجل وضيعته جاز أن يسكت على قوله - فإنكم وما تعبدون - لأن قوله وما تعبدون ساد مسد الخبر لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى: فإنكم مع آلهتكم: أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال: ما أنتم عليه: أي على ما تعبدون (بفاتنين) بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال (إلا من هو ضال مثلكم، أو يكون في أسلوب قوله:
(٣٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 350 351 352 353 354 355 356 357 358 359 360 ... » »»