الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٣٣
والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
____________________
الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلا قال لم تنزل على الأفاكين فقيل يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل - وأكثرهم كاذبون - بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجنى وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت: وإنه لتنزيل رب العالمين وما تنزلت به الشياطين هل أنبئكم على من تنزل الشياطين لم فرق بينهن وهن أخوات؟ قلت: أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع إلى المجئ بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها، ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفى صدره اهتمام بشئ منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه (والشعراء) مبتدأ، و (يتبعهم الغاوون) خبره، ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والنسيب بالحرم والغزل والابتهار ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل الغاوون: الراوون، وقيل الشياطين، وقيل هم شعراء قريش عبد الله ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي، ومن ثقيف أمية بن أبي الصلت قالوا نحن نقول مثل قول محمد، وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم أهاجيهم. وقرأ عيسى بن عمرو الشعراء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب، قرأ حمالة الحطب والسارق والسارقة وسورة أنزلناها. وقرئ يتبعهم على التخفيف ويتبعهم بسكون العين تشبيها لبعه بعضد. ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأشحهم على حاتم وأن يبهتوا البرى ويفسقوا التقى. وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات * وبت أفض أغلاق الختام فقال: قد وجب عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحد بقوله - وأنهم يقولون ما لا يفعلون - استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والآداب الحسنة ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم قال الله تعالى - لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم - وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى - فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم - وعن عمرو بن عبيد أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به. والقول فيه أن الشعر باب من الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل المراد
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 ... » »»