الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٨٧
قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون. قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال قد وقع عليكم
____________________
تقدير سؤال سائل، قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك (قال الملأ). فإن قلت: لم وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم، مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، فأريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، ونحوه قوله تعالى - وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة - ويجوز أن يكون وصفا واردا للذم لا غير (في سفاهة) في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم (ناصح أمين) أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فما حقي أن أتهم، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه (خلفاء من بعد قوم نوح) أي خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم (في الخلق بسطة) فيما خلق من أجرامكم ذهابا في الطول والبدانة، قيل كان أقصرهم ستين ذراعا وأطولهم مائة ذراع (فاذكروا آلاء الله) في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه، وواحد الآلاء إلى ونحوه أنى وآناء وضلع وأضلاع وعنب وأعناب. فإن قلت:
إذ في قوله إذ جعلكم خلفاء ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعول به وليس بظرف: أي اذكروا وقت استخلافكم (أجئتنا لنعبد الله وحده) أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حبا لما نشئوا عليه وإلفا لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجئ في قوله أجئتنا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجئ الملك. وأن لا يريدوا حقيقة المجئ ولكن التعرض بذلك والقصد، كما يقال ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك (فأتنا بما تعدنا) استعجال منهم للعذاب (قد وقع عليكم) أي حق عليكم ووجب، أو قد نزل
(٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 ... » »»