الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٦٢
محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون.
____________________
من صفات المشركين وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسئ، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا. وقرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ بأن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر التي هي أحق الحق وأجد الجد إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. والذكر هو الطائفة النازلة من القرآن. وقرأ ابن أبي عبلة (محدث) بالرفع صفة على المحل. قوله (وهم يلعبون لاهية قلوبهم) حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله وهم، واللاهية من لها عنه إذا ذهل وغفل: يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمل والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: النجوى وهى اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله وأسروا. قلت: معناه وبالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون. أبدل (الذين ظلموا) من واو وأسروا إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيها أسروا به، أو جاء على لغة من قال أكلوني البراغيث، أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره وأسروا النجوى قدم عليه، والمعنى: هؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى: أي وأسروا هذا الحديث، ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا، اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه تشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره وعمل المنصوبة في التثبيط عنه وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم ويتجاهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع، ومنه قول الناس استعينوا على حوائجكم بالكتمان، ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبر ونا بما أسررنا. فإن قلت: هلا قيل يعلم السر لقوله - وأسروا النجوى -؟ قلت: القول عام يشمل السر والجهر فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم السر، كما أن قوله يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم، ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية. قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله - قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض -؟ قلت: ليس بواجب أن يجئ بالآكد في كل موضع، ولكن يجئ بالوكيد آتارة وبالآكد أخرى، كما يجئ بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتانا، وتجمع الغاية وما دونها على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا
(٥٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 557 558 559 560 561 562 563 564 565 566 567 ... » »»