الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٥٥
إليك وحيه وقل رب زدني علما. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدولك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.
____________________
بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته. ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليه ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته، ونحوه قوله تعالى - لا تحرك به لسانك لتعجل به - وقيل معناه:
لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ حتى نقضي إليك وحيه. وقوله تعالى (رب زدني علما) متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عندما علم من ترتيب التعلم: أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم فإن لك في كل شئ حكمة وعلما. وقيل ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شئ إلا في العلم: يقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدم الملك إلا فلان وأوعز إليه وعزم عليه وعهد إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله - وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون - والمعنى: وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول: إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت: يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، وأن يراد الترك، وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها.
وقرئ فنسى: أي نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه له عزما، وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعدمنا له عزما (إذ) منصوب بمضمر: أي واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة وطاعته له بعد ما تقدمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى - كان من الجن ففسق عن أمر ربه - فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت: كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كأن الجنى الذي معهم أجدر بأن يتواضع كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب حتى إن لم يقم عنف، وقيل له قد قام فلان وفلان فمن أنت حتى تترفع عن القيام. فإن قلت: فكيف صح استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم، وعليه فأخرج الاستثناء على ذلك كقولك خرجوا إلا فلانة لامرأة بين الرجال (أبى) جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال لم لم يسجد، والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله فسجدوا، وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط (فلا يخرجنكما) فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حواء بعد إشراكهما في الخروج لأن في ضمن شقاء الرجل
(٥٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 550 551 552 553 554 555 556 557 558 559 560 ... » »»