الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥١١
ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا. يا أبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا. قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم: لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا.
____________________
منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوى فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم حيث قال - ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم - فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا أبت توسلا إليه واستعطافا.
(ما) في مالا يسمع وما لم يأتك يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في لا يسمع ولا يبصر منسى غير منوى كقولك ليس به استماع ولا إبصار (شيئا) يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون في موضع المصدر أي شيئا من الغناء، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني أن يكون مفعولا به من قولهم أغن عنى وجهك (إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) فيه تجدد العلم عنده. لما أطلعه على سماجة صورة أمره وهدم مذهبه بالحجج القاطعة وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني، وفيه ضرب من التعجب والأنكار لرغبته عن آلهته وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد، وفى هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه (لأرجمنك) لأرمينك بلساني يريد الشتم والذم، ومنه الرجيم المرمى باللعن، أو لأقتلنك من رجم الزاني، أو لأطردنك رميا بالحجارة وأصل الرجم الرمي بالرجام (مليا) زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عنى والهجران قبل أن أنحنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، يقال فلان ملى بكذا: إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف واهجرني؟
قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك: أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع
(٥١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 506 507 508 509 510 511 512 513 514 515 516 ... » »»