الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٧٣
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا. وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا. أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا. إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين
____________________
توليهم لرجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم وقرئ باخع نفسك على الأصل وعلى الإضافة: أي قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ إن لم يؤمنوا، وللمضى فيمن قرأ إن لم يؤمنوا بمعنى لأن لم يؤمنوا (بهذا الحديث) بالقرآن (أسفا) مفعول له: أي لفرط الحزن.
ويجوز أن يكون حالا والأسف المبالغة في الحزن والغضب، يقال رجل أسف وأسيف (ما على الأرض) يعنى ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها. ثم زهد في الميل إليها بقوله (وإنا لجاعلون ما عليها) من هذه الزينة (صعيدا جرزا) يعنى مثل أرض بيضاء لانبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنه وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك. ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لاحصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال (أم حسبت) يعنى أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة. والكهف: الغار الواسع في الجبل (والرقم) اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد وقيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، وقيل إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل، وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل، وقيل قريتهم، وقيل مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين (كانوا) آية (عجبا) من آياتنا وصفا بالمصدر أو على ذات عجب (من لدنك رحمة) أي رحمة من خزائن رحمتك وهى المغفرة والرزق والأمن من الأعداء (وهيئ لنا من أمرنا) الذي نحن عليه من مفارقة الكفار (رشدا) حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله كقولك: رأيت منك أسدا (فضربنا على آذانهم) أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع: يعنى أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب، كما يقال بنى على امرأته: يريدون بنى عليها القبة (سنين عددا) ذوات عدد فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة، لأن الكثير قليل عنده كقوله - لم يلبثوا إلا ساعة من نهار - وقال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد: أي يتضمن معنى الاستفهام فعلق عنه لنعلم فلم يعمل فيه. وقرئ ليعلم وهو معلق عنه أيضا لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول نعلم (أي الحزبين) المختلفين منهم في مدة
(٤٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 468 469 470 471 472 473 474 475 476 477 478 ... » »»