الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٦١
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا.
____________________
فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار، والضعف يوصف به نحو قوله - فآتهم عذابا ضعفا من النار - بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار، والمعنى: لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته وسبب موجب لغضبه ونكاله، فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها لما نزلت كان يقول: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " (وإن كادوا) وإن كاد أهل مكة (ليستفزونك) ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم (من الأرض) من أرض مكة (وإذا لا يلبثون) لا يبقون بعد إخراجك (إلا) زمانا (قليلا) فإن الله مهلكهم وكان كما قال فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل، وقيل معناه: ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم ولم يخرجوه بل هاجر بأمر ربه، وقيل من أرض العرب، وقيل من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فاجتمعوا إليه وقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة، وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله
(٤٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 456 457 458 459 460 461 462 463 464 465 466 ... » »»