الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٤٥
قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
____________________
(قولا كريما) جميلا كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة، وقيل هو أن يقول: يا أبتاه يا أماه كما قال إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعار قالوا: ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة رضي الله عنها: نحلني أبو بكر كذا. وقرئ جناح الذل، والذل بالضم والكسر. فإن قلت: ما معنى قوله (جناح الذل)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال - واخفض جناحك للمؤمنين - فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول.
والثاني أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا وللقرة زماما، مبالغة في التذلل والتواضع لهما (من الرحمة) من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فإن قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت: وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد ومن الناس من قال: كان الدعاء للكفار جائزا ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شئ أنفع له من الاستغفار، ولو كان شئ أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين وعن النبي صلى الله عليه وسلم " رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما " وروي " يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، يفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة ". وروى سعيد بن المسيب " إن البار لا يموت ميتة سوء ". وقال رجل لرسول الله صلى عليه وسلم " إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما ". " وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل علي بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " " وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال: لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنها سيئة الخلق، قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال: إنها سيئة الخلق، قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟
قال: لقد جازيتها؟ قال: ما فعلت، قال: حججت بها على عاتقي؟ قال: ما جزيتها ولو طلقة ". وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمه ويقول:
إني لها مطية لا تذعر * إذا الركاب نفرت لا تنفر ما حملت وأرضعتني أكثر * الله ربي ذو الجلال الأكبر تظنني جزيتها يا ابن عمر؟
قال: لا ولو زفرة واحدة. وعنه عليه الصلاة والسلام " إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء،
(٤٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 450 ... » »»