الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٤٤
فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا. وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما
____________________
في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر لأنها ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة. وروي أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا: يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد لهم في الجنة أكثر. وقرئ وأكثر تفضيلا، وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟
(فتقعد) من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة بمعنى صارت: يعني فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له (وقضى ربك) وأمر أمرا مقطوعا به (ألا تعبدوا) أن مفسرة ولا تعبدوا نهي أن بأن لا تعبدوا (وبالوالدين إحسانا) وأحسنوا بالوالدين إحسانا، أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. وقرئ وأوصى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ووصى. وعن بعض ولد معاذ ابن جبل وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق بالباء في بالوالدين بالإحسان لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته (إما) هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا لها ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت إن لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيدا يكرمك، ولكن إما تكرمنه، و (أحدهما) فاعل يبلغن، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين، و (كلاهما) عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيدا لا بدلا فما لك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل كلاهما فحسب، فلما قيل أحدهما أو كلاهما علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلا مثل الأول (أف) صوت يدل على تضجر. وقرئ أف بالحركات الثلاث منونا وغير منون، الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم والضم اتباع كمنذ. فإن قلت:
ما معنى عندك؟ قلت: هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب، والاحتمال حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما أف فضلا عما يزيد عليه، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة (ولا تنهرهما) ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر والنهم أخوات (وقل لهما) بدل التأفيف والنهر
(٤٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 ... » »»