الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٤٣
وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبير بصيرا. من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا.
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. انظر كيف
____________________
(كم) مفعول (أهلكنا) و (القرون) بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس يعني عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا، ونبه بقوله (وكفى بربك من ذنوب عباده خبيرا بصيرا) على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير وأنه عالم بها ومعاقب عليها. من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين: أحدهما تقييد المعجل بمشيئته، والثاني تقييد المعجل بإرادته، وهكذا الحال ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليه فقر الدنيا وفقر الآخرة. وأما المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالي أوتي حظا من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي فبها، وإلا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده وقوله (لمن نريد) بدل من له، وهو بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى من وهو في معنى الكثرة. وقرئ يشاء، وقيل الضمير لله تعالى فلا فرق إذا بين القراءتين في المعنى، ويجوز أن يكون للعبد على أن للعبد ما يشاء من الدنيا وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك. وقيل هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال صلى الله عليه وسلم " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فجهرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته لي ما هاجر إليه " (مدحورا) مطرودا من رحمة الله (سعيها) حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكورا إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور والسعي فيما كلف من الفعل والترك والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدمين:
من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية. وشكر الله:
الثواب على الطاعة (كلا) كل واحد من الفريقين والتنوين عوض من المضاف إليه (نمد) هم، نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مدد السالف لا نقطعه فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل (وما كان عطاء ربك) وفضله (محظورا) أي ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه (انظر) بعين الاعتبار (كيف) جعلناهم متفاوتين
(٤٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 438 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 ... » »»