الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٢٩
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين. ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.
____________________
كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعا له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم.
وعن قتادة: هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا عليم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به. وقيل كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع (وكذلك) ومثل ذلك التمكين الظاهر (مكنا ليوسف) في أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين (يتبوأ منها حيث يشاء) قرئ بالنون والياء: أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوأ له يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روى أن الملك توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت. وروى أنه قال له: اأا السرير فأشد به مالكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك، فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره، وعزل قطفير ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شئ منها، ثم بالحلى والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا، فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه، فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى؟ قال: الرأي رأيك، قال: فإني أشهد الله وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرص مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين (برحمتنا) بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم (من نشاء) من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك (ولا نضيع أجر المحسنين) أن نأجرهم في الدنيا (ولأجر الآخرة خير) لهم، قال سفيان بن عيينة:
المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر مشريا بدراهم معدودة، حتى لو تخيل أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبة من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالسا على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم فكان يتأمل ويتفطن. وعن الحسن ما عرفهم حتى
(٣٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 324 325 326 327 328 329 330 331 332 333 334 ... » »»