الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٣٢٠
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربى، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب
____________________
عليه، وإذا أضاق أوسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبروا تؤجروا، إن لهذا لأجرا، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفى الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك، فكن في أي بيوت السجن شئت. وروى أن الفتيين قالا له: إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشدكما بالله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل على من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل على من حبها بلاء، ثم أحبني أبى فدخل على من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل على من حبها بلاء، فال تحباني بارك الله فيكما. وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه، فقال الشرابي: إني أراني في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطفتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله نبئنا بتأويله؟ قلت: إلى ما قصا عليه: والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك. لما استعبراه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب وأنه ينبأهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة كل ذي علم أن يسلكه مع الجهال والفسقة إذا استسقاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك، وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين لم يكن من باب التزكية (بتأويله) ببيان ماهيته وكيفيته، لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه (ذلكما) إشارة لهما إلى التأويل: أي ذلك التأويل والأخبار بالمغيبات (مما علمني ربى) وأوحى به إلى ولم أقله عن تكهن وتنجم (إني تركت) يجوز أن يكون كلاما مبتدأ، وأن يكون تعليلا لما قبله: أي علمني ذلك وأوحى إلى لأنى رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهى الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة، وإن غيرهم كانوا قوما مؤمنين بها وهم الذين على ملة إبراهيم ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيها على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء. ويجوز إن يكون فيه تعريض بما منى به من جهتهم حين أودعوه السجن بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأن ذلك مالا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء، وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع
(٣٢٠)
مفاتيح البحث: الطعام (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 ... » »»