الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٥٩
يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم
____________________
- جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم - ثم قال (يعلم ما يسرون وما يعلنون) يعنى أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ونفاقهم غير نافق عنده. روى أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل نزلت في المنافقين. وقرئ تثوني صدورهم واثنوني. افعوعل من الثنى كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنوني. وقرئ تثنون وأصله تثنونن تفعه عل من الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ، يريد مطاوعة صدورهم للثنى كما ينثنى الهش من النبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ تثنئن من اثنأن أفعال منه ثم همز كما قيل ابيأضت وادهأمت. وقرئ تثنوى بوزن ترعوى. فإن قلت: كيف قال (على الله رزقها) بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل؟ قلت: هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم رجع التفضل واجبا كنذور العباد. والمستقر مكانه من الأرض ومسكنه والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة (كل) كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح: يعنى ذكرها مكتوب فيه مبين (وكان عرشه على الماء) أي ما كان تحته خلق قبل السماوات والأرض وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض. وقيل وكان الماء على متن الريح والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه (ليبلوكم) متعلق بخلق: أي خلقهن لحكمة بالغة، وهى أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بفنون النعم ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختيار المختبر قال ليبلوكم، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعلمون. فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه فهو ملابس له. كما تقول: أنظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن صوتا، لأن النظر والاستماع من طرق العلم.
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»