الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٥٨
من لدن حكيم خبير. ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير. ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم
____________________
ما يحتاج إليه العباد: أي بين ولخص، وقرئ - أحكمت آياته ثم فصلت - أي أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك: ثم فصلت: أي فرقت بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل، وكتاب خبر مبتدأ محذوف وأحكمت صفة له، وقوله (من لدن حكيم خبير) صفة ثانية، ويجوز أن يكون خبر وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت: أي من عنده إحكامها وتفصيلها، وفيه طباق حسن لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها: أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور (ألا تعبدوا) مفعول له على معنى لئلا تعبدوا، أو تكون أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله (وأن استغفروا) أي أمركم بالتوحيد والاستغفار، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة، ويدل عليه قوله - إني لكم منه نذير وبشير - كأنه قال: ترك عبادة غير الله إنني لكم منه نذير كقوله تعالى - فضرب الرقاب - والضمير في منه لله عز وجل: أي إنني لكم نذير وبشير من جهته كقوله - رسول من الله - أو هي صلة لنذير: أي أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. فإن قلت: ما معنى ثم في قوله (ثم توبوا إليه)؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة، أو استغفروا والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها كقوله - ثم استقاموا - (يمتعكم) يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من عيشة واسعة ونعمة متتابعة (إلى أجل مسمى) إلى أن يتوفاكم كقوله - فلنحيينه حياة طيبة - (ويؤت كل ذي فضل فضله) ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه، أو فضله في الثواب والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات (وإن تولوا) وإن تتولوا (عذاب يوم كبير) هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شئ فكان قادرا على أشد ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ وإن تولوا من ولى (يثنون صدورهم) يزورون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشئ استقبله بصدره، ومن أزور عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه (ليستخفوا منه) يعنى ويريدون ليستخفوا من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم، ونظير إضمار يريدون لقود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى - اضرب بعصاك البحر فانفلق - معناه: فضرب فانفلق، ومعنى - ألا حين يستغشون ثيابهم) ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله تعالى كقول نوح عليه السلام
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»