تعالى التهكم بالكفرة، وكما أريد به تحقير شأنهم والدلالة على جدارة مذاهبهم بالسخرية والضحك لا حقيقة التهكم، كذلك أطلق ههنا لفظ الاستهزاء وأريد به ذلك المعنى وتلك الدلالة لا حقيقة الاستهزاء (قوله أن يراد به ما مر في يخادعون الله) فيكون حينوذ استعارة مبنية على المشابهة في الصورة (وهو) أي الظاهر أو الإجراء (مبطن) من بطنت الثوب جعلت له بطانة (قوله وقيل سمى جزاء الاستهزاء باسمه) وذلك لما بين الفعل وجزائه من ملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة ههنا (قوله هو استئناف في غاية الجزالة) أي ليس ترك العطف فيه لدفع توهم كونه معطوفا على " إنا معكم " فيندرج في مقول المنافقين، أو على قالوا فيتقيد بالظرف: يعنى إذا خلوا بل هو لكونه استئنافا، وإنما كان في غاية الجزالة والفخامة لدلالته على أنهم بالغوا في استهزائهم مبالغة تامة ظهر بها شناعة ما ارتكبوا وتعاظم على الأسماع على وجه يحرك السامع أن يقول هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم وعقبى حالهم، وكيف معاملة الله تعالى والمؤمنين إياهم؟ ثم إن هذا الاستئناف لم يصدر إلا بذكر الله تعالى وحده لفائدتين: الأولى التنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم، وذلك لصدوره عمن يضمحل عملهم وقدرتهم في جنب علمه وقدرته. والثانية لدلالة على أنه تعالى يكفي مؤنة عباده المؤمنين وينتقم لهم ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم. وفى هاتين الفائدتين زيادة تأييد لجزالة الاستئناف وفخامته، والضمير في قوله (وفيه) في الموضعين راجع إلى قوله تعالى - الله يستهزئ بهم - وإنما أورد صيغة الحصر في تقرير أبلغية الاستهزاء مع أنه لا حاجة إليها تنبيها على ما هو مدلول الكلام، فإن بناء الفعل على المبتدأ مطلقا يدل عنده على الاختصاص كما صرح به في مواضع من هذا الكتاب (قوله ليس استهزاؤهم إليه) أي حال كونه منسوبا إليه و (لما ينزل بهم) متعلق بيستهزئ في قوله - هو الذي يستهزئ - وقوله (من النكال ويحل بهم من الهوان والذل) إشارة إلى معنى الاستهزاء الثالث والأول، ودل بقوله (ولا يحوج المؤمنين) على أن الحصر بالقياس إليهم: أي هو المستهزئ دون المؤمنين. لا يقال: الاستهزاء بمعنى السخرية لا يتصور منه تعالى، وبالمعنى
(١٨٧)