على هذه الجهلة فجاء الكلام على طريق الجواب لانكار ما سألوا، فقيل (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال ثم قال (ولا أنا عابد ما عبدتم) على نفي العبادة لما عبدوا في الماضي، وهذا واضح في أنه لا تكرير في لفظه ولا معناه. وقوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فعلى التكرير في اللفظ دون المعنى من قبل أن التقابل يوجب أن معناه ولا أنتم عابدون ما عبدت إلا أنه عدل بلفظه إلى اعبد للاشعار أن ما عبدت هو ما أعبد، واستغني بما يوجبه التقابل من معنى عبدت عن الافصاح به،. وعدل عن لفظه لتضمين معنى آخر فيه، وكان ذلك أكثر في الفائدة وأولى بالحكمة، لأنه دل على (عبدت) دلالة التصريح باللفظ فان قيل فهلا قال: ما عبدت ليتقابل اللفظ، كما تقابل المعنى؟ قيل: هو في حكم التقابل في اللفظ من حيث هو دال عليه إلا أنه عدل عن الافصاح به للاشعار بأن معبوده واحد كيف تصرفت الحال، وكان هذا أبعد في الايهام أن معبوده فيما مضى غير معبوده فيما يستقبل. وقد يجوز في الماضي والمستقبل ان يقع أحدهما موقع الاخر إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كما قال (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) (1) على معنى ينادون، ومنه قولهم: يدعوهم ابن رسول الله فلا يجيبونه، ويدعوهم ابن زياد إلى الباطل فيسرعون إليه.
فان قيل: فهلا دل على اختلاف المعنى باختلاف اللفظ إذ هو الأصل في حسن البيان؟ قيل: إن التقابل في ذلك قد صير اللفظ في حكم المختلف، لأنه مقيد به، ودلالة المقيد خلاف دلالة المطلق نحو: زيد قائم بالتدبير على خلاف معنى زيد قائم.
فان قيل: فهلا دل على ذلك من أصول مختلفة إذ هو أدل على خلاف المعنى بصريح الجهة؟ قيل: إنه لما أريد نفي العبادة على تصريف الأحوال صرف لفظ