عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٣٥
السباطة لا في أصل الجدار، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في (صحيحه)، وقيل: يحتمل أن يكون علم أذنهم في الجدار بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه صلى الله عليه وسلم بإيثارهم إياه بذلك، يجوز له التصرف في مالك أمته دون غيره، ولأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم. قلت: هذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكا لأحد أو لجماعة معينين، وقال الكرماني: وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه والأكل من طعامه. قلت: هذا أيضا على تقدير أن تكون السباطة ملكا لقوم. فإن قلت: كان من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب، وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد). والمذهب، بالفتح: الموضع الذي يتغوط فيه. وأخرجه بقية الأربعة أيضا. قلت: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا في ذلك الوقت بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم، فلعله طال عليه الأمر، فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، وأنه لو أبعد لكان تضرر. فان قلت: روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد ان يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال...) الحديث، فهذا يخالف ما ذكرت فيما مضى عن قريب. قلت: يجوز أن يكون الجدار ههنا عاديا غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيا عن جرمه فلا يصيبه البول. قوله: (ثم دعا بماء) زاد مسلم وغيره من طرق الأعمش: (فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبه). وفي رواية أحمد عن يحيى القطان: (أتى سباطة قوم فتباعدت منه، فأدناني حتى صرت قريبا من عقبه، فبال قائما، ودعا بماء فتوضأ به ومسح على خفيه).
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه جواز البول قائما فقاعدا أجوز لأنه أمكن، وقد اختلف العلماء في هذا فأباحه قوم، وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر وابنه وزيد بن ثابت وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما، وأباحه سعيد بن المسيب وعروة ومحمدابن سيرين وزيد بن الأصم وعبيدة السلماني والنخعي والحكم والشعبي وأحمد وآخرون، وقال مالك: إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به، وإلا فمكروه. وقالت عامة العلماء: البول قائما مكروه إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم، وكذلك روي والبول قائما عن أنس وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، رضي الله عنهم وكرهه ابن مسعود وإبراهيم بن سعد، وكان إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما، وقال ابن المنذر: البول جالسا أحب إلي، وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب. منها: حديث المقداد عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: (من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقه، أنا رأيته يبول قاعدا)، أخرجه البستي في (صحيحه) ورواه الترمذي، وقال: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح. وأخرج أبو عوانة الإسفرائيني في (صحيحه) بلفظ: (ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن). ومنها: حديث بريدة، رواه البزار بسند صحيح: حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الله بن داود حدثنا سعيد بن عبيد الله حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائما...) الحديث، وقال: لا أعلم رواه عن ابن بريدة إلا سعيد بن عبد الله، وقال الترمذي: وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، وقول الترمذي يرد به. ومنها: حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، وأخرجه البيهقي من حديث ابن جريج: أخبرنا عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائما، فقال: يا عمر! لا تبل قائما. قال: فما بلت قائما بعد). ومنها: حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، أخرجه البيهقي أيضا من حديث عدي بن الفضل عن علي بن الحكم عن أبي نضرة عن جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما).
قلت: أما الجواب عن حديث عائشة إنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، رضي الله عنه، وهو من كبار الصحابة، وأيضا يمكن أن يكون قول عائشة: (ما بال قائما)، يعني في منزله، ولا اطلاع لها ما في الخارج. فان قلت: قال أبو عوانة في (صحيحه) وابن شاهين: إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة، رضي الله عنها، قلت: الصواب أنه لا يقال إنه منسوخ، لأن كلا من عائشة وحذيفة أخبر بما شاهدة، فدل على أن البول قائما وقاعدا يجوز، ولكن كرهه العلماء قائما لوجود أحاديث النهي، وإن كان أكثرها غير ثابت. وأما حديث بريدة في هذا غير محفوظ، ولكن فيه نظر، لأن البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا. وأما
(١٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 ... » »»