عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٣٣
قال بعضهم: أي وضعه. إن قلنا: إنه كان كما ولد، ويحتمل أن يكون الجلوس حصل منه على العادة. إن قلنا: إنه كان في سن من يحبو. قلت: ليس المعنى كذلك لأن الجلوس يكون عن نوم أو اضطجاع، وإذا كان قائما كانت الحال التي يخالفها القعود، والمعنى ههنا: أقامه عن مضجعه، لأن الظاهر أن أم قيس أتت به وهو في قماطة مضطجع، فأجلسه النبي، صلى الله عليه وسلم، أي: أقام في حجره، وإن كانت اتت به وهو في يدها، بأن كان عمره مقدار سنة أو جاوزها قليلا، والحال أنه رضيع، يكون المعنى: تناوله منها وأجلسه في حجره وهو يمسكه لعدم مسكته، لأن أصل تركيب هذه المادة يدل على ارتفاع في الشيء، و: الحجر، بكسر الحاء وفتحها وسكون الجيم، لغتان مشهورتان. قوله: (فبال على ثوبه) الظاهر أن الضمير في ثوبه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إنه يرجع إلى الابن اي: بال الابن على الثوب نفسه، وهو في حجره صلى الله عليه وسلم، فنضح عليه الماء خوفا أن يكون طار على ثوبه منه شيء. قلت: هذا مما يؤيد قول الحنفية، وقد نسب هذا القول إلى ابن شعبان. قوله: (فنضحه)، قد ذكرنا أن النضح هو الرش، وقال ابن سيده: نضح الماء عليه ينضحه نضحا إذا ضربه بشيء فأصابه منه رشاش، ونضح عليه الماء: رش. وقال ابن الأعرابي: النضح ما كان على اعتماد، والنضح ما كان على غير اعتماد. وقيل: هما لغتان بمعنى، وكله: رش. قلت: الأول: بالحاء المهملة، والثاني: بالخاء المعجمة، وفي (الواعي) لأبي محمد، و (الصحاح) لأبي نصر، و (المجمل) لابن فارس، و (الجمهرة) لابن دريد، وابن القطوية وابن القطاع وابن طريف في (الافعال) والفارابي في (ديوان الأدب) وكراع في (المنتخب) وغيرهم: النضح الرش، وقد استقصينا الكلام به في الحديث السابق مستقصى. قوله: (ولم يغسله)، ولمسلم من طريق الليث عن ابن شهاب: (فلم يزد على أن نضح بالماء)، وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب: فرشه. وقال بعضهم: ولا تخالف بين الروايتين بين نضح ورش، لأن المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو بتنقيط الماء. فانتهى إلى النضح، وهو صب الماء، ويؤيده رواية مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام: (فدعا بماء فصبه عليه)، ولأبي عوانة: (فصبه على البول يتبعه إياه). قلت: عدم التخالف بين الروايتين ليس من الوجه الذي ذكره، بل باعتبار أن النضح والرش بمعنى، كما ذكرنا عن الكتب المذكورة، والوجه الذي ذكره ليس بوجه على ما لا يخفى، وأما رواية مسلم فإنها تثبت أن النضح بمعنى: الصب، لأن الأحاديث المذكورة في هذا الباب، باختلاف ألفاظها، تنتهي إلى معنى واحد، دفعا للتضاد. ألا ترى أن أم الفضل، لبابة بنت الحارث، قد روي عنها حديثان: أحدهما فيه النضح، والثاني: فيه الصب، فحمل النضح على الصب دفعا للتضاد، وعملا بالحديثين على أن الأحاديث الواردة في حكم واحد باختلاف ألفاظها يفسر بعضها بعضا، ومن الدليل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك قول العرب: غسلني السماء، وإنما يقولون ذلك عند انصباب المطر عليهم، وكذلك يقال غسلني التراب: إذا انصب عليه. فإن قلت: يعكر على هذا قوله: (فنضحه ولم يغسله) قلت: قد مر جوابه في تفسير الحديث السابق، على أن الأصيلي ادعى أن قوله: (ولم يغسله) من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع انتهى عند قوله: (فنضحه). قال: وكذلك رواه معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: فرشه، ولم يزد على ذلك.
وأما الإعراب فقوله: (لها): جملة في محل الجر لأنها صفة لابن، وكذلك، قوله: (صغير) بالجر صفة ابن، وكذلك قوله: (لم يأكل الطعام)، وقوله: (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) كلمة: إلى، تتعلق بقوله: (اتت)، و: ألفا آت، الأربعة للعطف بين الكلام، بمعنى التعقيب.
بيان استنباط الأحكام منها: حكم بول الغلام الرضيع وقد مر الكلام فيه مستقصى. ومنها: الرفق بالصغار والشفقة عليهم، ألا ترى أن سيد الأولين والآخرين كيف كان يأخذهم في حجره ويتلطف بهم؟ حتى إن منهم من يبول على ثوبه فلا يؤثر فيه ذلك، ولا يتغير، ولهذا كان يخفف الصلاة عند سماعه بكاء الصبي وأمه وراءه، وروي عنه أنه قال: من لم يرحم صغيرنا فليس منا. ومنها: حمل الأطفال إلى أهل الفضل والصلاح ليدعوا لهم، سواء كان عقيب الولادة أو بعدها، وقال بعضهم: حمل الأطفال حال الولادة. قلت: حملهم حال الولادة غير متصور، فهذا كلام صادر عن غير ترو، وأيضا قال هذا القائل: في هذا الحديث من الفوائد كذا وكذا، وعد منها: تحنيك المولود، وليس في الحديث ما يدل على ذلك صريحا، وإن كان جاء هذا في أحاديث أخر لأن ظاهر الحديث يدل على أن أم قيس إنما أتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التبرك، ولدعائه له، لأن من
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 ... » »»